الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (7): {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}{واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} بالإسلام لتُذكِّرَكم المنعِمَ وتُرغِّبَكم في شكره {وميثاقه الذي وَاثَقَكُم بِهِ} أي عهدَه المؤكَّدَ الذي أخذه عليكم وقوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ظرفٌ لـ {واثقكم به}، أو لمحذوفٍ وقع حالاً من الضمير المجرور في به، أو مِنْ ميثاقه، أي كائناً وقت قولِكم سمعنا وأطعنا، وفائدةُ التقييدِ به تأكيدُ وجوب مراعاته بتذكر قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسولُ الله عليه الصلاة والسلام على السمع والطاعة في حال العُسر واليُسر والمنشَطِ والمَكْره، وقيل: هو الميثاقُ الواقعُ ليلةَ العقبة وفي بَيْعةِ الرضوان، وإضافتُه إليه مع صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام، لكنّ المرجِعَ إليه كما نطق به قولُه تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وقال مجاهد: هو الميثاقُ الذي أخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صُلْب آدمَ عليه السلام {واتقوا الله} أي في نِسيان نعمتِه ونقضِ ميثاقِه، أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بخفيّاتِها الملابِسةِ لها ملابَسةً تامة مصحِّحة لإطلاق الصاحبِ عليها فيجازيكم عليها، فما ظنُّكم بجَلِيَّاتِ الأعمال، والجُملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتعليلٌ للأمر بالاتقاءِ، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موقعِ الإضمار لتربيةِ المهابة وتعليلِ الحُكْم وتقويةِ استقلال الجملة..تفسير الآيات (8- 10): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}{يَا أَيُّهَا الذين آمنُوا} شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بما يجري بينهم وبين غيرِهم إثْرَ بيانِ ما يتعلق بأنفسهم {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} مقيمين لأوامره ممتثلين لها معظِّمين لها مراعين لحقوقها {شُهَدَاء بالقسط} أي بالعدل {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحمِلَنَّكم {شَنَانُ قَوْمٍ} أي شدةُ بغضِكم لهم {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فلا تشهَدوا في حقوقهم بالعدل أو فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحِلُّ كَمُثلةٍ وقَذْفٍ وقتلِ نساءٍ وصِبْيةٍ ونقضِ عهدٍ تشفياً وغيرِ ذلك {اعدلوا هُوَ} أي العدلُ {أَقْرَبُ للتقوى} الذي أمرتم به، صرح لهم بالأمر بالعدل وبيّن أنه بمكانٍ من التقوى بعد ما نهاهم عن الجَوْر، وبيَّن أنه مقتضى الهوى، وإذا كان وجوبُ العدل في حق الكفار بهذه المثابة فما ظنُّك بوجوبه في حق المسلمين {واتقوا الله} أمرَ بالتقوى إثْرَ ما بين أن العدلَ أقربُ له اعتناءً بشأنه وتنبيهاً على أنه مَلاكُ الأمر {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال فيجازيكم بذلك وتكريرُ هذا الحُكم إما لاختلاف السببِ، كما قيل إن الأولَ نزل في المشركين وهذا في اليهود، أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاءِ ثائرةِ الغيظ والجملة تعليلٌ لما قبلها وإظهارُ الجلالة لما مرَّ مرات.وحيث كان مضمونُها منبئاً عن الوعد والوعيد عقَّب بالوعد لمن يُحافظ على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يُخِلُّ بها فقيل: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} التي من جملتها العدل والتقوى. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} حُذفَ ثانِيَ مفعولي وَعَدَ استغناءً عنه بهذه الجملة، فإنه استئنافٌ مبيِّنٌ له وقيل: الجملةُ في موقع المفعول، فإن الوعدَ ضربٌ من القول، فكأنه قيل: وعدَهم هذا القولَ {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} التي من جملتها ما تُلِيَ من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى {أولئك} الموصوفون بما ذُكر من الكفر وتكذيبِ الآيات {أصحاب الجحيم} ملابسوها ملابَسةً مؤبَّدة. من السُنة السنية القرآنية شفْعُ الوعدِ بالوعيد، والجمعُ بين الترغيب والترهيب، إيفاءً لحق الدعوة بالتبشير والإنذار..تفسير الآية رقم (11): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} تذكيرٌ لنعمة الإنجاءِ من الشرِّ إثرَ تذكيرِ نعمةِ إيصالِ الخير الذي هو نعمةُ الإسلام وما يتبَعُها من الميثاق، وعليكم متعلِّقٌ بنعمة الله، أو بمحذوفٍ وقع حالاً منها وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} على الأول ظرفٌ لنفس النعمة، وعلى الثاني لِما تعلَّق به عليكم، ولا سبيلَ إلى كونه ظرفاً لاذْكُروا لتنافي زمانَيْهما، أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم، أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم في وقت همِّهم {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي بأن يبطِشوا بكم بالقتل والإهلاك، يقال: بسَطَ إليه يدَه، وبسط إليه لسانَه إذا شتمه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليهم، حملاً لهم من أول الأمرِ على الاعتداد بنعمةِ دفعِه، كما أن تقديم {لكم} في قوله عز وجل: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الارض} للمبادرة إلى بيان كونِ المخلوق من منافعِهم تعجيلاً للمَسَرّة {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} عطفٌ على هم، وهو النعمة التي أُريد تذكيرُها، وذكراً لهم للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجةِ إليها، والفاءُ للتعقيب المفيدِ لتمام النعمة وكمالِها، وإظهارُ {أيديهم} في موقع الإضمار لزيادة التقرير، أي منَعَ أيديَهم أن تُمدَّ إليكم عقيب همِّهم بذلك، لا أنه كفها عنكم بعد ما مدُّوها إليكم، وفيه من الدلالة على كمالِ النعمة من حيثُ إنها لم تكن مشوبةً بضَرَر الخوف والانزعاجِ الذي قلما يعْرَى عنه الكفُّ بعد المد ما لا يخفى مكانُه، وذلك ما رُوي «أن المشركين لما رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بعَسفانَ في غزوة ذي أنمار، وهي غزوةُ ذاتِ الرَّقاع وهي السابعةُ من مغازيه عليه الصلاة والسلام، قاموا إلى الظهر معاً فلما صلَّوْا ندِمَ المشركون ألا كانوا قد أكبُّوا عليهم، فقالوا إن لهم بعدها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائِهم يعنون صلاةَ العصر، وهمُّوا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فرد الله تعالى كيدَهم بأن أنزلَ صلاةَ الخوف»، وقيل: هو ما رُوي «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قُرَيْظَةَ ومعه الشيخانِ وعليٌّ رضي الله تعالى عنهم، يستقرِضُهم لدِيَةِ مسلمَيْن قتلهما عمْرُو بنُ أميةَ الضَّمُريُّ خطأً يحسَبُهما مشرِكَيْن، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، اجلِسْ حتى نُطعِمَك ونعطِيك ما سألت، فأجلسوه في صُفَّةٍ وهمّوا بالفتك به، وعمَد عمرُو بنُ جِحاش إلى رَحا عظيمةٍ يطرَحُها عليه فأمسك الله تعالى يده، ونزل جبريلُ عليه السلام فأخبره، فخرج عليه الصلاة والسلام». وقيل: هو ما رُوي «أنه عليه الصلاة والسلام، نزل منزِلاً وتفرّق أصحابُه في العِضاة يستظلون بها، فعلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه بشجرة، فجاء أعرابيٌّ فأخذه وسله فقال: مَنْ يمنعُك منيِّ، فقال صلى الله عليه وسلم: الله تعالى فأسقطه جبريلُ عليه السلام من يده، فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: من يمنعك مني فقال: لا أحدَ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله» {واتقوا} عطفٌ على {اذكُروا} أي اتقوه في رعاية حقوقِ نعمتِه ولا تُخِلُّوا بشكرِها أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً {وَعَلَى الله} أي عليه تعالى خاصةً دون غيرِه استقلالاً واشتركاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} فإنه يكفيهم في إيصال كلِّ خيرٍ ودفع كل شر، والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله، وإيثارُ صيغة أمْرِ الغائبِ وإسسنادُها إلى المؤمنين لإيجابِ التوكل على المخاطَبين بالطريق البرهاني، وللإيذان بأن ما وُصفوا به عند الخطابِ من وصف الإيمان داعٍ إلى ما أُمروا به من التوكل والتقوى، وازعٌ عن الإخلال بهما، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحُكْمِ وتقوية استقلالِ الجملة التذييلية..تفسير الآية رقم (12): {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)}{وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ، مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي واثقهم به، وتحذيرِهم من نقضِه، أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه، على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمةٌ توارثوها من أسلافهم، وإظهار الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه، مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعي للإنقطاع عما قبله، والالتفاتُ في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} للجري على سَننِ الكِبْرِياء، أو لأن البعثَ كان بواسطةِ موسى عليه السلام كما سيأتي، وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر، والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب، وهو التفتيش، ومنه قوله تعالى: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم. قال الزجاجُ: وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع. رُوي أن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير إلى أَرِيحاءِ أرضِ الشام، وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون، وقال لهم: إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم، وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم، فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء، وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسّسون فرأَوْا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة، فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رأوا، وقد نهاهم موسى عن ذلك، فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبطِ يَهوذا، ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفراييمَ بن يوسُفَ الصّديقِ عليه الصلاة والسلام، قيل: لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق، وكان طولُه ثلاثة آلاف سنة، وكان على رأسه حُزمةُ حطب، فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته، وقال: انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا، فطرَحهم بين يدَيْها وقال: ألا أطحَنُهم برِجْلي، فقالت: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رأوا، ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم، وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال، أو أربعة، فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض: إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبي الله، ولكنِ اكتُموه إلا عن موسى وهارونَ عليهما السلام، فيكونان هما يَريانِ رأيَهما، فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل، فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهى سِبْطه عن قتالِهم، ويُخبرهم بما رأى إلا كالبَ ويوشعَ، وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل، فقور منه صخرة عظيمة على قدْرِ المعسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه، فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج، وطوقته فصرَعَتْه، وأقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ، وكذا طولُ العصا، فترامى في السماء عشرةَ أذرع، فما أصاب العصا إلا كعبَه وهو مصروعٌ فقتله، قالوا: فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه.{وَقَالَ الله} أي لبني إسرائيل فقط إذ هم المحتاجون إلى ما ذُكر من الترغيب والترهيب كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيدِ ما يتضمنه الكلام من الوعد {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالعلم والقدرة والنُّصرة، لا بالنصرة فقط، فإن تنبيهَهم على علمِه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قُدرته وملكوتِه مما يحمِلُهم على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نُهوا عنه، كأنه قيل: إني معكم أسمع كلامَكم وأرى أعمالَكم وأعلم ضمائِرَكم، فأجازيكم بذلك، هذا وقد قيل: المرادُ بالميثاق هو الميثاقُ بالإيمان والتوحيد، وبالنقباءِ ملوكُ بني إسرائيلَ الذين ينقُبون أحوالَهم، ويَلُون أمورَهم بالأمر والنهي، وإقامةِ العدل، وهو الأنسب بقوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة وَآمَنتُم بِرُسُلِي} أي بجميعِهم واللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوفِ وتأخيرُ الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاءِ الزكاة مع كونهم من الفروع المترتبةِ عليه لِما أنهم كانوا معترفين بوجوبِهما مع ارتكابِهم لتكذيبِ بعضِ الرسل عليهم السلام، ولمراعاة المقارَنةِ بينه وبين قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي نصرتموهم وقوَّيتموهم، وأصله الذّبُّ وقيل: التعظيمُ والتوقيرُ والثناءُ بخير. وقرئ {وعزَزْتُموهم} بالتخفيف {وَأَقْرَضْتُمُ الله} بالإنفاق في سبيل الخير، أو بالتصدق بالصدقات المندوبة، وقوله تعالى: {قَرْضًا حَسَنًا} إما مصدرٌ مؤكّدٌ وارد على غير صيغة المصدر، كما في قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أو مفعولٌ ثانٍ لأقرضتم على أنه اسم للمال المُقْرَض، وقوله تعالى: {لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ} جوابٌ للقسم المدلولِ عليه باللام سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط {سيئاتكم وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} عطفٌ على ما قبله داخل معه في حُكم الجواب، متأخرٌ عنه في الحصول أيضاً، ضرورةَ تقدُّمِ التخلية على التحلية. {فَمَن كَفَرَ} أي برسلي أو بشيءٍ مما عُدِّد في حيِّز الشرط، والفاءُ لترتيب بيانِ حُكمِ من كفَر على بيان حُكمِ من آمن، تقويةً للترغيب بالترهيب {بَعْدَ ذَلِكَ} الشرطِ المؤكّدِ المُعلَّقِ به الوعدُ العظيمُ الموجِبُ للإيمان قطعاً {مّنكُمْ} متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً من فاعل كفَرَ، ولعل تغييرَ السبْكِ حيث لم يقل وإن كفرتم عطفاً على الشرطية السابقة لإخراج كفرِ الكلِّ عن حيِّز الاحتمال، وإسقاطِ من كفَرَ عن رُتبة الخطاب، وليس المرادُ إحداثَ الكفر بعد الإيمان، بل ما يعمُّ الاستمرارَ عليه أيضاً، كأنه قيل: فمن اتّصفَ بالكفر بعد ذلك، خلا أنه قصَدَ بإيراد ما يدلّ على الحدوث بيانَ ترقِّيهم في مراتب الكفر، فإن الاتصافَ بشيءٍ بعد ورودِ ما يوجبُ الإقلاعَ عنه، وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادث {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي وسَطَ الطريق الواضحَ ضلالاً بيناً، وأخطأه خطأً فاحشاً، لا عذرَ معه أصلاً، بخلافِ من كفر قبل ذلك، إذْ ربما يمكنُ أن يكون له شُبْهةٌ، ويُتَوهَّمُ له معذرةً..تفسير الآيات (13- 14): {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الباء سببية، و(ما) مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس، أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً {لعناهم} طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا، أو مسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ، أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم. وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ، بأن يقال مثلاً: فنقَضوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان، وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السببية والمُسبَّبية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} بحيث لا تتأثرُ من الآيات والنذُر، وقيل: أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ، أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرئ {قَسِيّة}، وهي إما مبالغةُ قاسية، وإما بمعنى رديئة، من قولهم: دِرْهمٌ قِسيٌّ، أي رديء، إذا كان مغشوشاً له يَبْسٌ وخشونة، وقرئ بكسر القاف إتباعاً لها بالسين {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ أعظمُ مما يصحح الاجتراءَ على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه، وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدُّد والاستمرار، وقيل: حالٌ من مفعول لعناهم {وَنَسُواْ حَظَّا} أي تركوا نصيباً وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة ومن اتّباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وقيل: حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قد ينسى المرءُ بعضَ العلم بالمعصية وتلا هذه الآية {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة، أي ذاتِ خيانة، أو طائفةٍ خائنة، أو شخصٍ خائنةٍ، على أن التاء للمبالغة، أو نفسٍ خائنةٍ، و{منهم} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها، خلا أن (مِنْ) على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ، أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم، وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية، والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يترُكونها ويكتُمونها فلا تزال ترى ذلك منهم.{إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} استثناء من الضمير المجرور في {منهم} على الوجوه كلِّها، وقيل: مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرة، والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبد اللَّه بنِ سَلام وأضرابِه، وقيل: من خائنة على الوجه الثاني، فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل، ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر، أي إلا فعلاً قليلاً كائناً منهم {فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية، وقيل: مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به، وتنبيهٌ على أن العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان.{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتِهم، و(مِن) متعلقة بـ {أخذنا}، إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به، ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا؟ فكأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم، وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع خبراً لمبتدأ محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه، أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم، أو مَنْ أخذنا ميثاقهم، وضميرُ {ميثاقَهم} راجعٌ إلى الموصوف المقدر، وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول، وقيل: راجع إلى بني إسرائيل، أي أخذنا من هؤلاء ميثاق أولئك، أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل، وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير، وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق، وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم، وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء، أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم، فإن ادعاءهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه {فَنَسُوا} عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم {حَظّاً} وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً، وقيل: هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يُؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم، واتبعوا أهواءهم فاختلفوا وتفرقوا نِسطوريةً ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان، {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصَقنا، من غرِيَ بالشيء إذا لزمه ولصِق به، وأغراه غيرُه، ومنه الغِراء، وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ} إما ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعوله، أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم، ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء، أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤُهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الثلاثة، فضمير {بينهم} لهم خاصة، وقيل: لهم ولليهود، أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعّده: سأخبرك بما فَعَلت، أي يجازيهم بما عملوه على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذُكِّروا به، و(سوف) لتأكيد الوعيد، والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد، والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك، وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعِها للعذاب، فيكونُ ترتيبُ العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها.
|